قصة قصيرة :
رحلة بحث عن جنة عدن والوعدالمنتظر ..
كانت السماء متحررة من كدر السحاب.فَوَجَدَتْ شمسُ هذا الصباح الفضاء مشرعا لتملأ هذه النقطة من الكون بالإشعاع والدفء . أخذ البحر ما يكفيه من الإضاءة ، ليبعث بأجمل مرتبة من مراتب اللون الأزرق ! تلك الزرقة التي يسبح في انبساطها البياض ! الأمواج تتكسر على ناصية الشاطئ ، فبدا البحر كالشيخ الوقور وقد اشتعل شعر رأسه شيبا ووقارا ! صياد عَلِقتْ صنارته بالصخور المتربصة به وهي في القعر!!حاول فَكّها بلطف،ولما أعيته المحاولة،قطع الخيط،ومشى شرق الشاطئ ليغير المكان.علق صديقي حامد على مشهد الصياد قائلا:
-«لا أريد أن أخوض غمار تجربة زواج تنتهي بقطع الخيط ».
انتظرت أن يواصل الكلام لكنه توقف! حدست أن في مشروع زواجه أمراً ما،يريد الحديث عنه.في الجلسةالسابقة،كان حديثه عن سهام متحمسا.وكان كلامه عن المؤشرات الأولية للتلاقي مطمئنا.متعلمة.مدرسة.فأن تكون أم أولاده متعلمة ليس كأن لاتكون.وأن تكون مدرسة،سيجعلها أُمًّـا محنكة.هكذا فكر في المؤشرين وبنى عليهما حوافزه لمواصلة بلورة المشروع.لم أشجعه على الكلام في الموضوع،بل تركت له حرية ذلك .فأنا أعرف بعمق،من خلال عشرتنا الطويلة،فهمه للتواصل الحميمي،وفهمه العميق للإغتراب العلائقي.ولطالما كان نقاشنا في هذه التيمة خصبا،ونحن نستعرض التجارب العلائقية من حولنا، وتنوع امتداد روابطنا بها.وكل تجربة ناجحة أو فاشلة،كانت تصل بِنَا إلى خلاصة تنظيرية واحدة ،بخصوص مفهوم«التواصل»في العلاقات،فركبنا للمفهوم قاعدة،تكاد تكون شبيهة بمعادلة رياضية.وعندما وثقنا معا بكنه وصواب هذه القاعدة ، صاغها حامد لغة، وأكسبها بُعْدا إطلاقيا تنظيريا، يكاد ينطبق على مجمل العلاقات بين الناس ! أذكر جيدا بأننا كنّا معا في هذا الشاطئ الجميل،الذي يتحول خلال الشتاء إلى شاطئ وحشي مهجور، مما يزيده جمالا-كما هو الآن ! كنا في المكان نفسه، ووضع جلستنا مماثلا كما الآن ، حين ساق قوله كإشراقة شمس هذا الصباح ،بما معناه:
-التواصل حالة دائمة من الجهاد المتواصل بين طرفي علاقة ما، ضد الإغتراب بكل أبعاده الفكرية والوجدانية والسلوكية.فأن أرتبط بك في إطار علاقة صداقة-مثلا-يعني أنك بشخصيتك تشكل دائرة،وأنا أيضا أشكل دائرة،وعلاقتنا هي القاسم المشترك بين الدائرتين.هذا القاسم المشترك،لا يقف ساكنا،بل يتسع مدّا ويضيق جزرا.ومتى اتسع صار التواصل عميقا،وصار الإغتراب محاصرا؛ والعكس.ومتى تسرب الإغتراب إلى هذاالحيّز العلائقي،شرع في التهام التواصل،إلى أن يقضي عليه تماما.
ولرده إلى سياق تخوفه من احتمال انقطاع خيط الزواج،وربط ذلك بِما خلصنا إليه في الجلسة السابقة قلت:
-الزواج خيار صعب.فاللقمة سجن.واليومي مجرم قاتل.يقتل بدم بارد.ومتى سقطت العلاقة بين الزوجين،في ساحة معركة الحياة،ومات الحب،تصير العلاقة مجرد تسويات يومية،تواكبها انفعالات وتوثرات،إذا ما طالت تصير بنيوية.ومع الأيام تنتقل علاقة الزواج من حرارة الحب،إلى برودة الإغتراب ،يؤطرها(الواجب المؤسسي)؛إن لم تنته إلى قطع الخيط.
وكما غير الصياد مكان الصيد بعيدا عن الصخور،غير حامد مسار الكلام،وطلب مني أن أحكي له نكتة عن الزواج،وهو يعرف أنني مغرم بهذا السجل الشعبي النقدي،الذي لا يعرف المحظور.أشعلت محرك الذاكرة كي أحفزه على الإستحضار.لذلك صمتُّ قليلا،ثم قلت «وجدتها»وحكيت:
-اختار رجل الزواج بامرأة،فوافقت.ولأن كلا منهما له عمله ودخله ،اشترط عليها التعاون في تدبير مصاريف الحياة،فوافقت.وخيَّرها بين الإلتزام بالمصاريف اليومية أو الإكتفاء بمصاريف الكراء.فكرت في اليومي،وتهيبت منه.لأن المصاريف اليومية غير مستقرة،فالطوارئ أكثر كلفة ولو قَلَّتْ.فطارئ واحد قد يعصف بادخار سنة.لذلك اختارت مواجهة الكراء،لأن السومة الكرائية معروفة ومستقرة.فتوكلا على الله،وعاشا حياة زوجية هادئة في الأغلب الأعم من مسارها.ولولا ذلك لما عمرت علاقتهما عشرين سنة.وكانت مضرب المثل في وسطهماالعائلي بين الأزواج.ولمــا قضى الزوج أجله،جاء الورثة يطالبون بحقهم.فاكتشفت الزوجة أن المنزل الذي كانت تؤدي ثمن السكن فيه،ملك صاف للزوج.فأقامت له جنازتين:الأولى له أمام الأعين،والثانية لها على انخداعها.
ضحك حامد قبل أن يعلق على النكتة ويربطها بمشروع زواجه وما حل بخصوصه.ثم قال:
-ارتباط هذه المرأة بهذا الرجل،لم يكن زواجا.كان صفقة انطلقت بمساومة.والقمار لا يحصد نتيجة ثالثة.إما رابح وإما خاسر.ومن قبل الصفقة والمساومة عليه بقبول النتيجة.أما عن مشروع زواجي فالأمر مختلف مع النكتة في التفاصيل،ومطابق لها في الجوهر،وقد اختلفت مع سهام فيه.
قلت له :
-احك لي الوقائع ودع تحليلك جانبا.
وحكى:
- في الخروج الأول ، انطلقنا في النقاش المرتبط
بترتيبات حياتناالمشتركة مستقبلا، وبطلب منها. دارالكلام شرقا وسافر غربا،وختمتْه بطلبها أن أقلع عن التدخين. لم أرفض ولم أعد. وفي الخروج الثاني كان ختمها للكلام بطلبها أن أشتري منزلا بالإقتراض البنكي طويل الأمد. لم أرفض ولم أعد. وفي الخروج الثالث كان ختمها بطلبها أن أقترض منك ! وأشتري سيارة.لم أرفض ولم أعد.
لكنني سألتها هذه المرة عن الحصيلة المطلبية،قائلا:
-سهام ؟!
-نعم ؟!
-هل السيجارة وجود أم موجود ؟
استغربت.فكرت.وأجابت:
-السيجارة موجود.
-والمنزل وجود أم موجود ؟
-موجود.
والسيارة وجود أم موجود ؟
-موجود .
-وأنا الذي أحمل اسم حامد وجود أم موجود ؟
-أنت أيضا موجود.
قلت خاتما الجولة قبل أن أودعها وأدعو لها بابن الحلال الذي يناسبها:
-لم أكن أعلم بأن وجود حامد شيئا.فأنت أعدل امرأة في الوجود!
(...)
قلت لحامد :
-أنت تبحث عن أجمل الصفات المتفرقة على نساء في كيانك،وتريد جمع هذه الصفات في امرأة واحدة.ألا ترى معي بأن هذا التصور حالم ؟
قال:
-أنا وجود ولست شيئا.ولأنني كذلك أمتلك الحق في الحلم بامرأة/وجود.ولست دوغمائيا.فالرسم كحلم يحدد المبتغى في كل مرتكزاته،وعندما أجد في هذه المرتكزات حدًّا أدنى سأنطلق.أما أن يغيب الحد الأدنى كمنطلق،سينقطع الخيط بكل تآكيد.
والزواج ليس تجريبا،إنه رؤية ورؤيا واختيار.
قلت:
-وما هي مرتكزات حدك الأدنى ؟!
قال وبروعة في القول:
-أن أبصر في عيني حبيبتي جنة عدن والوعد المنتظر !
(…)
محمد الجلايدي-القنيطرة - المغرب