قصة قصيرة :
- « الأرشم »..
-( صاحبي حسن ) :
هكذا أناديه مُذ عرفتُ حبه لشعر أحمد مطر. يحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر هذا الشاعر ، ويعتبر القصيدةَ التي تحمل عنوان -( صاحبي حسن ) - جوهرةَ العِقد الشعري ، الذي أبدعه مطر . لذلك ينوي إنجاز بحث نهاية الدروس الجامعية حول هذه القصيدة بالذات ، و من زاويةِ رؤيةٍ رصديةٍ لما تعرضت له القصيدة من قراءة وتأويل ، وفق نظرية التلقي ! يعشق الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. يردد دوما عندما يرق مزاجه ، قولَ حنا مينة ، الذي يطابق نظرته إلى الحياة ، ويصوغه بلغة حنا دون أن يُخِلّ بمضمونه :
- الحياة جديرة بأن تعاش من أجل قضية نبيلة يؤمن بها الإنسان ويكرس حياته من أجلها !
(…)
(صاحبي حسن ) وحيد أمه التي تشتغل طبّاخة أعراس . وليخفف عنها أعباء توفير اللقمة بالكاد ، يخرج للعمل في أوقات الفراغ الدراسي . كان رجلا وهو طفل ، وبقي رجلا وهو شاب . ورغم ، وألفُ ألفِ رغم ، يحافظ على الألق الذهني وصفو المزاج . ومتى شعر بفقدهما لا يتردد في البحث عما به يستردهما. ميال إلى النكتة ، يحب المزاح والضحك . وإذا لم يجد إليهما منفذا ، يصنع بإبداعٍ ، المقالب الجميلة التي تجعلنا نضحك !
(…)
تجمعني و ( صاحبي حسن ) عشرة صداقة تعود بِنَا إلى الماضي البعيد : انطلقت من الحي و الدرب واللعب ، ونمت مع المدرسة بمختلف أطوارها . نساند بَعضَنَا ، نتقاسم أسرارنا الصغيرة والكبيرة ، ونحترم بعضنا في تلاقينا وخلافنا !
(…)
وبقدر صدق ( صاحبي حسن ) مع الناس ، بقدر معاداتهم ورفضهم ، إذا التقط بحدسه نفاقهم فكريا كان أم سلوكيا . وعندما أحاول صده عن ذلك والإهتمام بما يهمنا ، ينفجر ضاحكا ، ثم يردد قوله :
-النفاق أشرس عدوٍّ للإنسانية في هذه الدنيا. كن إبليسا أو قديسا ، لا يهم . أما أن تتظاهر بأنك ورع تقي ، وأنت زنديق ، فمارس ظاهرك عكس باطنك على غيري ، لا علي .
أضحك وأتركه على سجيته . ولما يجدني غير معارض ، يضيف :
-لو طلبتَ من حاسوبك أن يفرز لك عدد الآيات التي قيلت في الكافرين ، والتي ذكِرَت في المؤمنين ، لوجدتهما ثلثا ، والثلثان سيقا للمنافقين وحدهم .
أضحك ولا أعلق كي لا أشجعه على المضي في هذا المنحى الذي بات معروفا ، وتداعياته على حياة الناس في حَيّنا معلومة كذلك !
(…)
استعجلنا العودة من البحر الذي قضينا بشاطئه هذا الصباح ، كي يتسنى ل( صاحبي حسن ) العمل بعدالظهر ، ونحن في أيام عطلة جامعية بينية . وفي انتظار قدوم أمه إلى المسجد وفراغها من صلاة الجمعة ، لمرافقتها إلى البيت ، قبل أن يغادره للعمل ؛ جلسنا قرب سُور الجامع . نتحدث ونتابع الأطفال أمامنا وهم يلعبون بزهو وإتقان كرة القدم المصغرة ، على الساحة الإسمنتية التي تتوسط المساكن والمرافق . وعلى حين غرة اقتحم جلستنا ( الأرشم ) . ثم شرع يخطب علينا بالنهي والوعد والوعيد . ولو لم يناده أحدالمارة لأمطرنا بخطبة الجمعة قبل موعدها !
(…)
( الأرشم ) ليس اسمه ولا لقبه . والذي نعته به أول مرة مع أول فضيحة من فضائحه التي لا تنتهي ، هو ( صاحبي حسن ) ، ثم شاع هذا النعت بين شباب الحي وأطفاله . وقبل أن يعود قال لي ( صاحبي حسن ) على سبيل الهزل المرتبط بالسياق :
-قرر إبليس أن يهاجربلدنا فتخفى وعلى متن قارب من قوارب الموت ركب البحر الأبيض المتوسط طلبا للوصول إلى أوروبا . غامر بحياته هربا منا . ساعده الحظ في الوصول . التقى ب( ماربيا ) الإسبانية واحدا من بني جلدتنا ، فعرفه . استغرب وجود إبليس فسأله متعجبا :
-ما حملك على مغادرة ديارنا وجئت إلى أرض الغربة ؟!
أجابه إبليس :
-لقدكثر أمثالي هناك . يقومون بعملي قبل أن يتفتق في ذهني كفكرة ، حتى صرت بينهم عاطلا عن العمل . يسرق الواحد منكم المال الخاص أو العام ويشتري به سيارة ويكتب على زجاجها بالخط الكوفي أوالعثماني :
-(هذا من فضل ربي!)..
ضحكنا معا ثم أضاف :
-إذا عاد ( الأرشم ) إلينا الزم الصمت ، وسأتكفل به . يريد أن يسجل على إبليس ضربة جزاء ، وإبليس في بلد المهجر . فإبليس كان واضحا منذ البداية . حين قال ( لا ) في وجه من قالوا( نعم ) وظل روحا أبدية الألم ..
وهذا الكلام استوحاه ( صاحبي حسن ) من قصيدة للشاعر المصري أمل دنقل ..
-أما هذا المنشار( يقصد الأرشم ) فإنه يأكل صاعدا ويأكل نازلا . يدعي الورع وكل أشكال الزندقة التي فاضت بها العصور يمارسها ! هو وأمثاله من حملوا إبليس على الهجرة !
(…)
توقعت أن الأمر سيقف عند حدود النقاش ، بين (صاحبي حسن ) و( الأرشم ) ، لكن الأمر تجاوز ذلك مما خلخل أفق توقعي !!
(…)
عاد إلينا ( الأرشم ) . واستأنف خطابه المُحَمّل بالنهي والوعد والوعيد . ولما انتهى أخرج ( صاحبي حسن ) من جيبه سيجارة ، وقال له بنبرة جادة :
-دخِّنْ معي هذه السيجارة ، وستكون الأخيرة بالنسبة لي . وإن فعلتَ سنصلي خلفك اليوم . وسيكون التواب على يدك ، إن شاء الله .
فكر ( الأرشم ) في المساومة ، ثم حسم بثقة في النفس قائلا :
-أقبل والله عليم بأني أفعل ذلك من أجله !
(…)
أشعل ( صاحبي حسن ) السيجارة ، امتص دخانها بلطف ، ثم مدها إليه . وشرع ( الأرشم ) يدخن بنهم وكأني به يريد أن يؤكد ( صدقه ) ! تركتهما ورحت لأتوضأ في انتظار أن يلحق بي ( صاحبي حسن ).. ولما أذن المؤذن للصلاة كنّا مع المصلين . انطلق ( الأرشم ) يسبح في خضم خطبته روحة وجيئة ! والنَّاس يتمالكون أعصابهم ، كي لا يلغوا . ولما انتهى قالوا جميعا :
-( الحمد لله ) مرتين !
الأولى لله ، والثانية لأن ( الأرشم ) توقف عن اللغو . ومثلهم تمالكت نفسي كي لا أضحك ، فأسقط في اللغو . لأني فهمت أن السيجارة لم تكن سيجارة ، بل كانت صاروخا من نوع (سكود) !
(…)
ولما انتهى المصلون غادروا دون أن يلتفتوا إلى ( الأرشم ). لم يقل له أحد لا شكرًا ولا بارك الله فيك ، على غير العادة ! كان الطنين في رأسه قد خَفَّ ربما . لذلك أمسك بيد( بَّا ) قويدر ، ليفهم منه سبب غضب المصلين منه.و( بَّا ) قويدر من عشاق كرة القدم الإسبانية . قال له بصوت مزمجر ، وأناأسمع كي لاتفوتني الخاتمة :
-تكلمت عن غزوة بدر، وقلت بأن الكفار استعملوا القنابل العنقودية ، ورغم ذلك انتصر المؤمنون ! فقلنا هذا تاريخ بعيد يعلمه الله . وقلت بأن الكفار استعملوا القنابل الإنشطارية في معركة الخندق ، فقلنا هذا أيضا تاريخ بعيد يعلمه الله !! أما أن تقول لنا بأن ( كريستيانو أورلاندو ) لاعب كرة القدم البرتغالي ،الذي يلعب في صفوف فريق ريال مدريد الإسباني ، بأنه ( ولدالدرب ) ويلعب مع النادي القنيطري ؛ فهذا لا يمكن قبوله ، ولا السكوت عليه ..
————
* الأرشم : الذي ليس بخالص اللون ولا حُرِّه .
(محمد الجلايدي - القنيطرة - المغرب)

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق